بسم الله الرحمن الرحيم
و الْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفًا (٢) وَ النَّاشِراتِ نَشْرًا (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقًا (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْرًا (٥) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) و إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥)
شرح المفردات
المرسلات: هم الملائكة الذين أرسلهم الله لإيصال النعمة إلى قوم، والنقمة إلى آخرين، عرفا: أي للمعروف والإحسان، والعاصفات: أي المبعدات للباطل كما تبعد العواصف التراب والتبن والهباء، والناشرات: أي الناشرات لأجنحتهنّ عند نزولهنّ إلى الأرض، فالفارقات فرقا: أي فالفارقات بين الحق والباطل، فالملقيات ذكرا: أي فالملقيات العلم والحكمة إلى الأنبياء، عذرا أو نذرا: أي للإعذار والإنذار، من قولهم: عذره إذا أزال الإساءة، وأنذر إذا خوّف، طمست: أي محقت وذهب نورها، فرجت: أي فتحت وشقت، نسفت: أي اقتلعت من أماكنها بسرعة من قولهم: انتسفت الشيء إذا اختطفته، أقّتت: أي عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على أممها، أجّلت: أي أخرت وأمهلت، الفصل: أي الفصل بين الخلائق بأعمالهم: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، ويل: أي عذاب و خزي.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة، منهم المرسلون إلى الأنبياء بالإحسان والمعروف ليبلغوه للناس، ومنهم الذين يعصفون ما سوى الحق ويبعدونه كما تبعد العواصف التراب وغيره، ومنهم الذين ينشرون آثار رحمته في النفوس الحية، ومنهم الذين يفرقون بين الحق والباطل، ومنهم الملقون العلم والحكمة للإعذار والإنذار من الله - إن يوم القيامة لا ريب فيه، وحين تمحق أنوار النجوم، وتشقق السماء، وتنسف الجبال، ويعين للرسل الوقت الذي يشهدون فيه على أممهم، ويفصل بين الخلائق إبّان العرض والحساب يكون الخزي والعذاب للكافرين المكذبين.
الإيضاح
(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا) أي أقسم بملائكتى الذين أرسلتهم بالإحسان والمعروف، ليبلغوه أنبيائى ورسلي.
(فَالْعاصِفاتِ عَصْفًا) أي فالملائكة المبعدين للباطل بسرعة كما تعصف الريح التراب والهباء.
(وَالنَّاشِراتِ نَشْرًا) أي والملائكة الذين ينشرون آثارهم في الأمم والنفوس الحية.
(فَالْفارِقاتِ فَرْقًا) أي فالملائكة النازلين بأمر الله للفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي.
(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْرًا. عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) أي فالملائكة الملقيات إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم بعقاب الله إن هم خالفوا أمره.
(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) أي أقسم بهذه الأقسام إن ما وعدتم به من قيام الساعة لكائن لا محالة.
(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي فإذا ذهب ضوء النجوم، ونحو الآية قوله: « وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ».
(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي وإذا السماء انفطرت وتشققت، وهذا كقوله: « وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْوابًا » وقوله: « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ » وقوله: « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ » (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي وإذا الجبال فرقتها الرياح، فلم يبق لها عين ولا أثر، وهذا كقوله: « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفًا ».
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي وإذا جعل للرسل وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، وهذا كقوله تعالى: « يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ».
(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ؟) أي ويقال حينئذ: لأي يوم أخّرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفار وإهانتهم، وتنعيم المؤمنين ورعايتهم، وظهور ما كانت الرسل تذكره من أمور الآخرة وأحوالها، وفظاعة أهوالها.
والمراد بهذا تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه كأنه قيل: أي يوم هذا الذي أجّل اجتماع الرسل إليه؟ إنه ليوم عظيم.
ثم بين ذلك اليوم فقال تعالى:
(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي ليوم يفصل الله فيه بين الخلائق، وهو اليوم الذي أجّل اجتماع الرسل له.
(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟) أي وما أعلمك بيوم الفصل وشدته وعظيم أهواله؟
ثم صرح بالمراد وأبان من سيقع عليهم النكال والوبال حينئذ فقال:
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب وخزى لمن كذب بالله ورسله وكتبه وبكل ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به.
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتًا (٢٥) أَحْياءً وَ أَمْواتًا (٢٦) وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتًا (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)
شرح المفردات
من ماء مهين: أي من نطفة قذرة حقيرة، في قرار مكين: أي في الرحم، إلى قدر معلوم: أي إلى مقدار معيّن من الوقت عند الله، فقدرنا: أي على خلقه وتصويره كيف شئنا، والكفات: ما يكفت، أي يضم ويجمع، من كفت الشيء، إذا ضمه وجمعه، وأنشد سيبويه:
كرام حين تنكفت الأفاعى
إلى أجحارهنّ من الصقيع
رواسي: أي جبالا ثوابت، شامخات: أي مرتفعات، فراتا: أي عذبا.
المعنى الجملي
بعد أن حذر الكافرين وخوّفهم بأن يوم الفصل كائن لا محالة، وأقسم لهم بملائكته المقربين ورسله الطاهرين بأنه يوم سيكون، وأن فيه من الأهوال ما لا يدرك كنهه إلا علّام الغيوب - أردف ذلك بتخويفهم بأنه أهلك الكفار قبلهم بكفرهم فإذا سلكتم سبيلهم فستكون عاقبتكم كعاقبتهم، وستعذبون في الدنيا والآخرة، ثم أعقبه بتخويفهم بنكران إحسانه إليهم، فإنه قد خلقهم من ماء مهين في قرار مكين إلى زمن معلوم، ثم أنشأهم خلقا آخر، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، ليشكروا نعم الله عليهم، فكفروا بها وأنكروا وحدانيته وعبدوا الأصنام والأوثان، ثم ذكرهم بنعمه في الآفاق إذ خلق لهم الأرض وجعلها تضمهم أحياء وأمواتا، وجعل فيها الجبال لئلا تميد بهم وجعل فيها الأنهار والعيون، ليشربوا منها ماء عذبا زلالا، فويل لمن كفر بهذه النعم العظام.
الإيضاح
(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ؟) أي ألم نهلك من كذب الرسل قبلكم، ونعذبهم في الدنيا بشتى أنواع العذاب، فتارة بالغرق كما حدث لقوم نوح، وأخرى بالزلزال كما كان لقوم لوط إلى أشباه ذلك من المثلاث التي حلت بالأمم قبلكم، جزاء لهم على قبيح أعمالهم وسيئ أفعالهم، وإن سنننا في المكذبين لا تبديل فيها ولا تغيير، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وتندموا، ولات ساعة مندم.
(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم فعلوا مثل أفعالهم.
وفي هذا من شديد الوعيد لأهل مكة ما لا يخفى.
ثم ذكر الحكمة في إلحاقهم بهم فقال تعالى:
(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن سنتنا في جميع المجرمين واحدة، فكما أهلكنا المتقدمين لإجرامهم وتكذيبهم - نفعل بالمتأخرين الذين حذوا حذوهم، واستنوا سنتهم، فسنننا تجرى على وتيرة واحدة.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي هؤلاء وإن عذبوا في الدنيا بأنواع من العذاب، فالطامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة، والتكرير للتوكيد شائع في كلام العرب كما تقدم في سورة الرحمن.
وقال القرطبي: كرر الويل في هذه السورة عند كل آية لمن كذب بشىء لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فجعل لكل مكذب بشىء عذابا سوى عذابه بتكذيب شيء آخر اهـ.
ثم ذكّرهم بجزيل نعمه عليهم في خلقهم وإيجادهم مما يستدعى جزيل شكرانهم فقال تعالى:
(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ؟) أي ألا تعترفون بأنكم خلقتم من نطفة مذرة منتنة وضعت في الأرحام إلى حين الولادة، ونحن قد قدرنا ذلك فنعم المقدرون، إذ خلقناكم في أحسن الصور والهيئات - أفلا يستحق ذلك الخالق منكم الشكران لا الكفران والاعتراف بوحدانيته وإرساله للرسل والإقرار بالبعث؟ لكنكم كفرتم أنعمه، ونكلتم عن الاعتراف بوحدانيته، وعبدتم الأصنام والأوثان، وأنكرتم يوم الفصل والجزاء، فسترون في هذا اليوم عاقبة ما اجترحتم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي خزى وعذاب لمن كذب بهذه المنن العوالي.
وبعد أن ذكّرهم بالنعم التي أنعم بها عليهم في الأنفس - ذكرهم بما أنعم عليهم في الآفاق، وأرشد إلى أمور ثلاثة:
(٢) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتًا. أَحْياءً وَأَمْواتًا؟) أي ألم نجعل الأرض مهادا لكم، فتكفتكم وتجمعكم فيها أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها، فالأحياء يسكنون في منازلهم، والأموات يدفنون في قبورهم.
خرج الشعبي في جنازة فنظر إلى الجبّان فقال: هذه كفات الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء.
و كانوا يسمون بقيع الغرقد (مقبرة المدينة) كفتة لأنه مقبرة تضم الموتى.
(٢) (وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي وجعلنا جبالا ثوابت عاليات على ظهرها، لئلا تميد بكم.
وهذه الجبال متصلة بالطبقة الصوّانية التي هي أبعد طبقات الأرض عن سطحها وتلك الطبقة تضم في جوفها كرة النار المشتعلة التي في باطنها، وظاهرها هذه القشرة التي نحن عليها.
(٣) ( وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتًا ) أي وأسقيناكم ماء عذبا فراتا تشربون منه، إما آتيا من السحاب الذي حفظته الجبال بارتفاعها، وإما من العيون النابعات منها ويمدها الثلج الذي يذوب شيئا فشيئا فوق ظهر الأرض متنزلا إلى بطنها، متجها إلى عيونها الجارية.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب عظيم في الآخرة لمن كفر بهذه النعم.